من شمسٍ إلى أُخرى

    رمت الصحاري علينا بقيظها، وأمال بالرطوبةِ البحرُ القريب، ونحن تحت ظلال الصفيح و الحديد.. كأننا بداخل فرن، وليهب الهواء النادر يلفحنا بسخونة منفرة، وبين هذا وذاك ضيقٌ في الصدر وخمولٌ في الحركة، وكلما اقتربت الشمس لمنتصف السماء زاد وهجها ولهيبها، وكأن الحياة توقفت لساعات، وساد سكون حاد وتنفس ثقيل، غابت الأصوات وخفت الحركات، فكل ما يُصدر صوتًا جالسًا تحت ظل أو باحثًا عنه.


   يمضي اليوم في العادة كما مضت أيام مثله، وبتتابع الأيام يقترب الموعد لتجربة جديدة، شردت في تفكيري.. بتوفيق من الله كانت نتيجة سعي طويل وجهد دؤوب، على الرغم من الحذر من هذه الخطوة الكبيرة والخروج من منطقة الراحة إلى مكان جديد شمال البحر، لربما سأذوق مرارة الغربة وضيق الوحدة واختلاف اللغة والثقافة.. لكن هناك أملًا جميلًا، وأنسًا بالرحلة وشغفٍ للتطور وعزمٍ للمعرفة والعلم، وخطة واضحة وضعتها أمام النيل، خطوطٌ عريضة وأحلامٌ كبيرة ما كنت أتصور أن تصبح هذه الخطوط وبعض هذه الكلمات صورًا مجسمةً وأحداثًا واقعة.


   لربما كانت الشمس في سمائي قد تعامدت فوق رأسي فى كثير من الأحيان، ولكن سعيت كثيرًا إلي الظل، وقد طلته وذقته فقدرته، وازداد الحر، يالها من أضاد؟! حدة الشمس هنا وقسوة البرد هناك، الجفاف هنا وكثرة الأمطار هناك، التساؤلات تتركني حائرًا في غموض ما بعد التجربة هل هذا الاختيار صحيح؟! 


   انتهي اليوم وغربت شمسه، مددت جسدي المنهك فوق سريري، وقد جعل المكيف الكارفان باردًا، ففضلت عيناي الراحة، و ألتمس جسدي الاسترخاء فعمني شعور بالسكون ما لبثت -كعادتي- حتى شغلته بالتفكير، ولكنه تفكير مسلي ومحبب للنفس، سعيٌ دائم لشمس أخف حدة، لن تكون الطرق هناك مستوية بل كهذه الصحراء الوعرة، وعورةٌ قد أصنع بعضها مع أني لدي الخيار لأستغني عن هذا العناء، لكن الفرص لا توجد دائما فإن صنعتُ بعضها كان هذا للتعلم والارتقاء لا حُبًا للعناء، فبذلك تصبح خطواتي أكبر وعبوري للتضاريس أسهل.


   هناك في البيت، كأن النيل توقف عن المضي وكأن لونه الأزرق الداكن صار شاحبًا، وفوقه الطيور تروح وتغدو بلا استقرار بين النخيل، وتمايلت الحشائش والأشجار مع النسيم نحوي، كأنها تلاطفني وتسألني البقاء، وفي الداخل بدت مكتبتي الصغيرة كبيرة لأول مرة فاقت رونقها المعتاد كأنها تحدثني عما سأفوته إن ذهبت، وأحاديث عائلتي المعتادة أصبحت محل اهتمامي.. ضحكاتهم، غضبهم وحتي ظلال حركاتهم في البيت، إن كان الفراق صعبًا فإن لحظات الوداع أقسي، فجأة يصير لكل جامد روح ولكل شيء حنين.


   ومهما أبلغ من الحنين فقد عقدت العزم والله ولي التوفيق.. لقد اشتريت في العطلة السابقة ثلاثة أمتار ونصف من الصوف ومثلهم من القطن المقلم، ويخيطها الآن الخياط عقدة وعقدة.. عقدة بلهجتنا وعقدة برائحة شوارعنا، عقدة بصوت الأذان، عقدة بعزوة العائلة وهكذا هذه الجلابية تكتمل بعُقد من حياتي، قد فصل هذا الخياط -في أقدم مكان في إسنا- لجدي ولأبي ولي، سآخذها.. فعسي أن تجلب معي دفء العائلة ورائحة الوطن.





Comments

Popular Posts