غريب

  انتصفت الشمس في سمائها، وأشعتها قد ملأت أرجاءها الزرقاء، وبينما السحب المتقطعة تمر مهرولة، عبرت ظلالُها سريعًا من جبلٍ لآخر، ومن أول وادٍ إلى آخره، وبينها يصل الدفء المتخلل إلى الرمال والصخور، وقد وصلنا لوجهتنا، وسكن صوت المحرك، وارتفع صوت الهواء، وابتعدنا إلى الداخل وبدأنا عملنا.


   وبينما نحن متسلقون، توقفنا.. قد هالنا المنظر، رؤياه كفتور عمَّ أجسامنا للحظات، فسـاد الصمت.. أهذا ما نظنه؟ كنا هنا منذ بضعة شهور، وبقي الجبل كما عهدناه، لم يجدّ عليه إلا هذا! كان أسفل الجبل، ولكنه أعلى من الوادي قليلًا، كأنما واضعوه أرادوا أن يحفظوه من السيول.


   استمرت أشعة الشمس في الهطول، فجلسنا تحتها، نشرب الماء، وبدأت أنفاسنا السريعة كالغمام فوقنا بالسكون، ونسينا لوهلةٍ ما كنا نفعله، فكرت في هذه الصحراء المترامية في غموضها، وفي المجهولين الذين بها، فكرت في القصص التي حدثت، وفي أشياء عديدة مرت ولم ترها عينٌ أو تسمع بها أذن. أحسست بالغربة لهذا الف...


   "اقرأوا له الفاتحة"، قطع تفكيري هذا الصوت، قرأت ودعوت، كما لو كنت مكانه، كنت لأود أن يدعو لي من يمر، وما أحوجه للدعاء وما أحوجنا! وأي شخص يمر من هنا؟! في هذا المكان البعيد، في هذه الصحراء القاسية، من سيمر في تلك المنطقة الوعرة؟! لهذا أحسست بالغربة لهذا الفقيد، ربما هو من القادمين بالتهريب من السودان، ساقته حمى الذهب لهذا المكان، وربما كان جزءًا من قصة أخرى قاسية كتلك التي نسمعها على الدوام، ينتهي الحال بصاحبها في قبر في أرضٍ مقفرة، فكرت في أهله، ما سلوانهم عن فقيدهم الذي لا يعرفون حاله أو مكانه؟ هل أمل عودته لا يزال معلقًا؟ فكرت في نظرة أمه، لربما لا تزال تراقب الباب أحيانًا كثيرة، وتتحسسه من حينٍ إلى حين.


   سلبني هذا القبر إلى سكونٍ حزين، وقد حالت الغمامة بيني وبين الشمس ودفئها، فتبدل اللون حولي إلى رمادي، وأصبح النسيم الدافئ هبوبًا باردًا، جلست أمام القبر، متفكرًا في غموض الموت، وبقدر غموضه فهو معروف، لا يفرق بين صغيرٍ أو كبير، غير مبالٍ بأي أرضٍ أو في أي حال، يصيب مبتغاه لا يخطئه، هذه حقيقة مطلقة، لا فرار من الموت، ولو كنا في بروجٍ مشيدة.


   تذكرت نياح النائحات، وجلوس الرجال صامتين، بين داعٍ ومستغفر، يسود الصمت كصمتي هذا، تُدفن الجنازة بين صيحات "لا إله إلا الله"، تُلقّن الإجابات، تعود، وتدرك أنك اليوم أتيت مترجلًا، ومن الممكن أن تكون غدا محمولًا. نظرت إلى الفقيد ثانية، أحمله الرجال؟ أو ناحت عليه البواكي؟!

   وقفنا، عدنا.. تاركين هذا الغريب، ذاكرينه في دعواتنا كلما مررنا في هذا الوادي، أو فاحت لنا ذكراه.



ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ۚ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِين


Comments

Popular Posts