أبو إبراهيم يحيى السنوار

   صدمني الهواء البارد تاركًا هذه القشعريرة الغريبة تسري في جسدي، نظرت - وكانت النظارةُ في حقيبتي- نظرة الفاقد للإدراك و الاضواء كالغامات المضيئة أمام عيني مشتتة في كل اتجاه واتجاه بألوانها المختلفة تضفي زرقة حينًا وحمرة حينًا، كنت كالنائم بينما أفكاري تنعم بنشاطها المعتاد، أنطلقنا من الاستراحة وكلما ابتعدنا غربًا عن الساحل ازدادت البرودة بقدر الابتعاد.
 

  وبقدر ظلمة الليل الحالك كانت شدة إضاءة النجوم فبقدر تباينهما ظهرا، كنتُ مصوبًا ناظريّ إليهما فهما الثابتان الواحيدان في الطريق بينما تتحرك كل معالم الطريق مع السيارة التي تشقه شقَا، لقد مررت بهذا الطريق من قبل مرات عديدة، و له كل مرة هذا الطابع الفريد عليّ، دائما كنت أتعجب من الطرق وتأثيرها علينا وخاصة ما طال منها، وكيف تؤثر فينا معالمها الثابتات كل مرة تأثيرًا مختلفًا.

 
  ما أشبه الطرق بالحياة؛ فالحياة مجرد سبيل مؤقت إلي دار قرار أبدية اختلفت الطرق المؤدية إليها و نهايةً إليها كل طريق، دائما تساءلت عن طريقي الذي أخترته ودائما ما تسائل الناس عن ما أختاروه، كان هو التباين من الليل الحالك كان هو الضوء الصافي الناصع و المَعلم الثابت في السماء.


   أختار الطريق الوعر وقد أمضي حياته كلها فيه مدافعا كالأُسدِ في عرينها، مجاهدًا في سبيل الله اعلاءًا لكلمته و تحريرًا لوطنه، قد حاصروه مصادفة وقد قوامهم فاستنجدوا بالكتائب بينما هو بسلاحه الخفيف وايمانه القوي وعزمه الشديد كالجبل أمامهم، حاولوا اختراق البيت فصدهم، فقصفوه بالدانات و مع ذلك لم تأتهم الجرأة على المضي، فأرسلوا المسيرات تتلصص النظر، فإذا به على عرشه حاملا العصا كالجبل في هيبته، تلثم و لو خلع لثماه لتركوه حيا ولكنه اختار الموت الجليل اختار الشهداة أمام الله علي كل الدماء التي سالت وكل العائلات التي هُجرت اختار أن يكون شهيدًا، كم أنت مهيب يا أبا ابراهيم!، لم يدخل الطعام جوفك منذ ثلاثة أيام، ولم تترك سلاحك ولم تغادر ثغرك، نعم القائد أنت ونعم الشهيد.

  لوّح المسيرة بعصاه ويده الآخرى مبتُورةَ من القصف، سبحان الله العظيم، يعطي من كرمه لعباده الصبر والعزم اتهموك بطلانًا أنك متخفي في الأنفاق، و الناس جميعا شهدوا موتك المشرف وسط جنودك في الصف الأول مدافعًا عن العرض والدين.

  ما أفقر التاريخ أن يلد مثلك وما أحوجه، ما قدرك إلا قدر عالٍ وما عزمك إلا عزمٌ مهيب، ألا إنك نعم القدوة ونعم القائد و نحسبك من الرجال الذين قال فيهم الرسول لا يضرهم من خالفهم.



لعمرك هذا مماتُ الرجال * * * ومن رام موتاً شريفاً فذا


Comments

Popular Posts