صخب
لطالما زرتُ القاهرة كل عام ولكنها لم تكن بهذا الصخب ولا بهذا التسارع، وجوه مستقيمة من دون ملامح غير ملامح التعب و الإرهاق.. أجساد منهكة سائرة في كل اتجاه مبعثرة في الشوارع مستمرة في المسير غادية ورائحة كأنها تدور في دوائر، ما تلبث أن تغرب الشمس فيغمر القاهرة الظلام والدوائر كحالها مستمرة والوجوه كما هي مستقيمة.
لا أعلم ربما الزحام هنا ينزع العاطفة من الناس أو ربما هي قلة الأشجار و الطيور، كأنما نسي الناس هنا زقزقات العصافير ولم تعد وجوههم تحس نسيمات الهواء النقي ومتي آخر مرة نعمت أسماعهم براحةِ السكون.. من سالف الدهر والبشر يحبون الهدوء ويميلون إلى الأماكن بطيئة الأحداث قليلة العناصر، ورغم قلة عناصرها إلا أنها متناغمة في صفاتها فاكتملت بذلك صفة الجمال فيها ودائما ما يدفع هذا الجمال إلى سكون لطيف.
ربما كثرة الإسمنت و العناصر وتلوث الهواء جعل الناس يفقدون إدراك التناغم.. جعلهم لا يرون صفات الجمال فيدركونه ولا إلى ذلك السكون اللطيف فيحسونه، فأصبحت الحياة ثقيلة وأصبح الإنسان جافا ذا وجهٍ مستقيم ما يلبث أن يأخذه التيار غارقًا في تلك الدوائر مثله مثل الملايين غيره فقدوا تذوق الجمال أو لم يذوقوه قط.
الغريب أن الناس هنا وإن كانوا كُثُر فإنهم معزولون قلوبهم شتى وإن كانت أجسادهم متلاصقة، ففي هذه الدوائر المستمرة ما يكاد الانسان يخرج منها حتي يضع نفسه في دائرة آخري يستمر في الدوران معها مثقل القلب حائر العقل، لا يري صَوبَه سوي المادة متطلعٌ لها متمسكًا بأطرفها ما يلبث أن يبلغ منها موضعًا حتي يطمع في موضع أعلي فلا يتريث ويستكين فيري الجمال حوله في موضعه الذي وصل إليه، لابد أن يفهم من غاب الجمال عن إدراكه أن الجمال موجود في كل التفاصيل الصغيرة المهملة وكل الضحكات الصادقة و في تلك المشاعر العميقة الدافئة.
حتي وإن غاب الجمال من القاهرة الكبيرة وخَفَتَ صوت طيورها ولو لم تعد هناك أشجار تُهدِّئ من وقع شمسها وحتي ولو أن ليلها لم يعد مظلما كليالي الصحاري.. حتي وإن اختفت أثارها ومعالمها بين تلك المباني والطرقات، يظل الجمال فينا نحن في تقديرنا للنعم، في سكوننا وتريثنا.. في أمل جميل، وربما في حب صادق ووفاءٍ قوي، ربما في عاطفة أعمق ومشاعر إنسانية محبة للخير، ربما في ودٍ وذوقِ في المعملات اليومية أو في كلمات رقيقة تدفعها من فمك كصدقة.
و قبل أن أصبح وجهًا بين الوجوه المستقيمة.. جسدًا بين تلك الدوائر المستمرة، قررت ترك الصخب خلفي و حزمت أغراضي إلى ليلة ظلماء هادئة إلى مغامرة جديدة!!
Comments
Post a Comment