حاملي الراية
مشيتُ بين الأزقة وخلال الحارات، بين المباني العتيقة والزوايا الخفية، مرورًا في حارات المغربلين والخيامية، وقد أذهلتني زخارف زاوية كتخدا، وأعجبتني حرفة الخياميين، أكملتُ المسير بين أصوات الباعة واضطراب المحيط وعشوائية صاخبة على النقيض من سكينة الآثار وعبقها وتلك العمارة البديعة المضبوطة وسحرها، كان ذاك التباين مؤلمًا، وتلك المناظر منفرة.
كلما حاولتَ أن تتعمق إلى تلك المعاني، وتُحدق في تلك العمارة، فتصبح في هذا العالم الجميل، وتُصيبك تلك العزة القديمة الممزوجة بالنصر والقوة، فتسمع صليل الخيول وزئير الرجال، وترى لمعان السيوف، فيصيبك ذلك السهم الغادر، سهم الجهل والضياع، سهم الضعف والذل، فتُكمِل المسير غير آبهٍ لتلك المعاني، غير مُقدِّرٍ لتلك الصور.
وكأنما تلك المشاهد هي تلخيص جلي للواقع؛ فبعدما كنا سادات الدنيا ورافعي رايات الله، أنزلنا تلك الرايات وأبدلناها برايات الفرقة والأحزاب، فهبطت عزتنا وخارت قوتنا، وأصبحت أمتنا الكبيرة فرقًا متناثرة وشيعًا متناحرة. أصبحنا الغنم بعدما كنا الذئاب، وأُكلتْ منا كل قاصية، كنت فقط أريد المضي فقد أزعجني البكاء على الأطلال، مررتُ وقد وصلتُ إلى باب زويلة -أو ما تبقى منه- وتحته من المشاهد ما لا يختلف عن سابقتها؛ فما هو إلا الإزعاج، وما هو إلا الجهل والعشوائية.
عُلِّقت هنا قبل ذاك رؤوسٌ كانوا من جيشٍ ظنوا أنهم حازوا الدنيا، وأن أعدادهم كَرِمالها، وقلوبهم كجبالها، فألزمهم حاملو الراية حدَّهم، وأعملوا فيهم السيف، ودخلوا بعدها القاهرة مظفرين من باب النصر، وحرروا البلاد ووحدوها، وعمَّ بلاد الإسلام الخير، أكملت الطريق غير آبه بهذا الحزن الجليل، وغير مبالِ لحدة الشمس.
مسجد الأشرف الغوري عن يميني، وقد خرجتُ واتجهتُ يمينًا إلى مسجد الأزهر، صليت الجمعة، وتذكرت قول العز بن عبد السلام: "من نزل بقريةٍ فشى فيها الربا، فخَطَب عن الزنا، فقد خان الله ورسوله." أكملت المسير إلى خان الخليلي، إلى أن وصلت إلى باب الفتوح وخرجت، وكل المساجد والآثار تُبكيني فأأبى، وتستنظرني فأشيح بناظري، أنظر لعز الأجداد، أنظر إلى مواقعهم وانتصاراتهم، فكففت نفسي واستدرتُ داخلًا من باب النصر غير منصور، والجًا كما كانت تلج الجيوش، ولكن غير متقلدٍ لسيف ولا مدججًا بدرع، ناظرًا للدنيا وحالنا، فكيف أرثي الأيام ونحن من نستحق النعي والرثاء؟
لقد علمتُ من الأحجار والآثار ما تريده، كما علمتُ عن نفسي ما تريد؛ ما نريد إلا حاملًا للراية المباركة يزيل عن بلاده البؤس، ويمحي بسيفه الجهل، ويعيد للقاهرة قهرها للأعادي ورحمتها لساكنيها، فاليوم قد حمي الوطيس واضطرب الميدان، والراية لا تليق بها يدٌ ترفعها، ولا فمٌ يصيح بكلماتها!!
![]() |
وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) |
Comments
Post a Comment