غربةٌ و غروب

 كلما مالت الشمس إلى الغرب وراء الجبال وخفت ضوئها البرتقالي شيئا فشيئا و لمعت السحب وسط ظلام السماء بلون فاقع كأنها سفن في ظلمات البحر ثم بدأت تبعد عن الأنظار كأنها متعمقة إلى المحيط و أسراب الطيور تئوب إلى أعشاشها، عندها تتسلل أصابع السقيع خلال الوديان و بين الجرود فيزداد الجو في برودته وتصبح النسمات رياحًا عاتيةً لا يُحتمل الوقوف فيها ولا المرور خلالها.

ما هى إلا لحظات حتي زال الضوء و أمسيت أُحصى النجوم التي كانت تظهر واحدة تلو الآخرى إلي أن عجزت من كثرتها، و ارتعشت النجمات ارتعاشات جماعية وفردية فتحسبها تؤدى رقصات عتقية، ومع شدة السقيع ارتعشت أنا أيضا من البرد الذى لطلما استمتعت به و بالشتاء فى البيت فلى فى ذلك أسلوبى الخاص ولكن شتاء هذا العام مختلف.

أكتشفتُ أن الوحدة تزيد الشعور بالبرد.. تجعله لا يُحتمل وكأن طبقات الملابس تلك لا تصده، وكأنما هو شعورٌ داخلى عندما تستسلم له النفس فإنه يفتك بها فيمتزج الإحساس المادى والمعنوى معًا فيذروك شاردًا حنينًا إلى من أرقك نواهم وأتعبك بَينْهم، تصمتُ كثيرًا وتصمت.. والصحراء صامتة ولصمتهما تضج أصوات عقلك وتزدان خلجات نفسك.

تغلغل البرد فى داخلى وسرى فى عظامى وعلى جمال النجوم وبهاء السماء لم أحتمل أن أقف خارجًا دقيقة آخرى، تذكرت فى هذه اللحظة دفئ منزلنا وصوت أمى تُخيرنا بين مشاريب الشتاء الساخنة فشعرت بالغربة.. فما الغربة إلا البعد عن الأهل وما الوطن إلا قربهم.

كان العبابدة يدعون الدكتور الجيولوجي سمير خواسك ومن معه من البعثة الاستكشافية بالغرباء، لقد قرأت ذاك فى كتاب "فى بلاد العبابدة" وأظن أن أجيال الجيولوجين قد توالت منذ تلك البعثة فى الستينات جيل خلف جيل فى صحراء و آخرى ولكننا بقينا غرباء.. غرباء فى هذه الأرض الموحشة وتنك الجبال الوعرة!! منفيين عن الأهل والعمران، لكن للحياة مراحلها وإن كنتُ فى غروبها اليوم أو كنت فى غربتها فالأيام تمر وإنى منتظر ٌ شروق شمسها و إنفراج بينها. 

تواريت للداخل و قد أشتدت الرياح لدرجة أن حفيفها يشبه الخوار و كأنها موسيقى تصويرية لفيلم صُورت مشاهده فى الصحراء، لم تكن هذه الليلة مريحة كالعادة ولكن التعب يأسر الإنسان فى النوم، غفوت..

سمعت زقاقات بديعة للعصافير ذات جرسٍ رائع وكانت نغماتها تتباين كأن الطيور تتناوب على الغناء و الإنشاد، ففتحت عيناى وقد أشرقت الشمس من بعد أفولها وعمَ الدفئ من بعد السقيع، فلم يبقِ إلا أيام قليلة حتى يحل الوصل ويعود الأنس وتنتهى الغربة..


ولهانُ ينتظرُ والشوق يستعرُ ... البيدُ تعرفه والليلُ والقمرُ












Comments

Popular Posts