الشيخ سليمان العرباوى

 كنت في المكتب وحيدًا منشغلاً ببعض الأعمال المكتبية، فإذا بسيارة قادمة ونزل منها رجلاً كهلا قد بلغ منه الشيب مابلغ ذا عمامة مميزة لم أرها في صعيد مصر ولا شمالها قبلاً، بعد التحية شربنا الشاي وعرفني بنفسه أنه الشيخ سلِيمان من عرب قبيلة المعازة من بطن الطبابنة وهم ساكني هضبة المعازة من الزعفرانة حتى رأس غارب.


كان حديثه شيقا حدثنى فيه الشيخ عن نشأته فوق هذا الجبل وقالها وهو يشير إليه: أمي وِلدتني فوق الجبل ذا، ونظرت متعجبا!! وأصابني بالطبع الفضول وأمسيت منشغلا بحديثه، فأستكمل ما بدأه وقال: كنا نعيش فوق هذه الهضبة ونقتات من الرعي ففوقها المراعي فسيحة والخير للمواشي كثير، وينزل الرجال إلي المدينة فيبيعوا بعض دوابهم ومن ثمنها يشتروا القمح والسمن والتمور و قاطعته كيف يصلون إلي وجهتهم بين تلك الشعاب والمنحدرات والطرق الملتوية الوعرة!! فأجابني بأنهم يحفظون الطرق والوديان ويعرفونها بأسمائها فينشئ الفتي منهم وقد حفظ عن ظهر قلب الطرق والمسالك.


فينطلق الرجال راكبى إبلهم ومعهم ما سيبيعوه من ماشيتهم ويرجعون بالمؤنة والكساء تكفيهم لثلاثة أشهر وبالطبع يأكلون اللحم ويتفعون باللبن والجلود من مواشيهم، وأخبرني أنهم كانوا يدفنون القمح في الأرض بطريقة معينة لتخزينه حتي لا يفسد!! ويطحنونه بالرُحي ويسكنون بيوتًا من الصفيح والشعر دائمي الترحال في الهضبة باحثين عن الماء فأينما حل حلوا وأينما وُجد أستقروا.


وقد أراني أوراق فيها الاتفاقات بين شيوخ القبائل في حدود هجرتهم فلكل بطن البطون حاجز لا يتعداه فمثلا ينتشر الطبابنة من غارب جنوبا إلي الزعفرانة شمالاً، وأكمل وأسترسل أنه عندما كان صغيرًا عرضت الدولة على العرب أن يشرعوا فى استخراج بطاقتهم القومية لكى يحصلوا التموين ويدخل أطفالهم المدارس، وبمرور السنون أنتقل بدو المعازة إلي جوار مدينة المنيا شيئا فشيئا فأطلقوا عليهم عرب المنيا وبهذا تركوا حياة التنقل واستقروا وبنَو البيوت هناك.


فإذا كانوا أستقروا هناك، فمذا أتي بالشيخ هنا؟! حسنًا.. في عهد الخديوية أتفق معهم الخديو -لا أذكر من هو تحديدًا- أن يكونوا هم حماة التخوم والحدود الشرقية لمصر و أن يبلغوه بأي تهديد من الشرق فكانوا بمثابة أعين المملكة المصرية وقتها، ومر الوقت لكن لم يمر الاتفاق فهو مطبق إلي الآن فالشيخ ومعه شبان من العرب يحافظون على الجبل والتخوم والمنافذ من النهابين والمهربين فهذا سلوهم من قديم.


كما قص علىّ قصة رهط من الرهبان والأجانب أتوا زيارة لكنيسة تقع بين بني سويف والمنيا وأردوا الذهاب لدير في وسط الصحراء جنوب الزعفرانة فأختروا طريق بالقمر الصناعي ومشوا ورائه حتي هم بين الجبال وفي نصف المسافة إذ رأو أن الطريق الذين أختاروه بالملاحة ينحدر إنحدارًا شديد فرجعوا وضلوا طريقهم فأوقفوا الباص وغابوا عن الاتصالات ثلاثة أيام وبلغت الحكومة بهذا العرب فقال الشيخ: أن واحدا من العرب قال أنا آتيكم بهم فذهب بعد أن أخذ طعامه وراءهم سيرا بالجمل إلي أن وجدهم وأعطاهم ورقة بالانجليزية قد كُتبت لهم في حال وجدهم أن أصحبوا هذا الرجل وهكذا رجع بهم سيرا بعد أن وجد حالهم يرثي لها من العطش والجوع فنظر الشيخ إلي نظرة مفادها أن هذا أثبات أن الجبل كبيوتهم يحفظونه واديًا واديًا.


فأخبرني الشيخ بعد أن علم أني جيولوجي أن كثيرا من الجيولوجين يخرجون مع شبان قبيلته إلي الجبال في رحلاتهم العلمية للدكتوراة والماجستير كأدلاء محلين يعرفون الطرق والمفارق، أخذت رقم هاتفه و أخبرته أني سأهتفه يوما ما طالبا الصحبة في طريقي الوعر هذا بين الوديان وخلال الفيافي قاصدًا العلم و الاستكشاف!!


 

Comments

Popular Posts