لحظات الحلول
ليالي ثمان قضيتها في شاطئ الأبيض المتوسط من مدينة الإسكندرية، ولا جرم أن الأدباء من زمننا الماضي كانوا يتشافوا بالجلوس إلي البحر وحتي في الأدب الإنجليزي كان العليل يتشافي بهواء البحر الفسيح.
لم تكن هناك علة في جسدي ولكن أحسست أني أتشافي لا أعلم من ماذا!! ولكني أستحسنت هواء البحر، وبعد سفر بمتاعي الثقيل متنقل إلي القاهرة ومنها إلي السويس وأخيرا إلي رأس غارب، وقبل رأس غارب نزلت في كافيتيرا متفق عليها، وكان مصطفي القوصي سائق سيارة الخدمات منتظرا و قال : حمدالله على السلامة ياهندسة وكانت هذه فاتحة لذاك اللقب السخيف أحيانا، لا أخفيكم سرًا.. راقني في البداية، ولكن بعدها لا يقال هندسة إلا وخلفها مشكلة في العمل ربما كرهته لهذا السبب.
سرنا إلي الغرب من البحر الأحمر نحو خمسة وأربعين كم في مدقٍ وعرٍ للغاية في الوديان الفرعية لوادي الضحل، ولم يمر ربع تلك الرحلة إلا وقد قطعت تغطية الهاتف، حينها عُزلت عن حياتي العادية ودخلت دنيا الجبل.
الجبل هنا وحش مخيف و أبٌ حنون في الوقت ذاته، يخشي الناس هنا أهواله ومصائبه ولكنه مصدر رزقهم وقوت يومهم، تصيب الصحراء هنا الناس من صمتها فلا تراهم يتكلمون ومن شمسها فلا تراهم إلا ويلهثون، فالجبل دوائر من إرهاق، حتي أسهل المهام هنا لا تتم إلا بالمشقة والمكابدة.
عموما.. بعدما قُطعت تغطية الهاتف و أكملنا المسير بين هز و تأرجح صعودا ونزولًا يمينًا ويسارًا وبعد ساعتين من هذا السير غير المستقر، كانت مقطورة السائق قد عبأت طنًا من غبار الوادي، وكنا علي مشارف المنجم وقد ظهرت في الأفق بعض الشركات الأخري وأخيرًا صعد بنا مصطفي التبة ووصلت إلي موقع الشركة الجديد، أرهبني منظر الغرف من الخارج وكيف لجسد من بني آدم أن تعيش فيها، فحمدت الله أنهم أخبروني إنني سأمكث في الموقع القديم، ووصلت الموقع القديم فهالني منظر مبانيه وغرفه وما الموقع الجديد إلا جنة عامرة من صحراء الطوب المقفرة هذه!!.
نظرت إلي الغرف ونظرت إلي السائق وهكذا فحملقك ناظريه إلي وقال:"و صلنا يا هندسة" وقلت وأنا أفتح باب السيارة نازلاً منها:"محدش بيكولها بالساهل!!" وعلمت لاحقا أن كثيرًا من الناس ما يلبث أن يري المباني في الجبل إلا ويحلف بالله أنه لن ينزل من السيارة إلا إذا أخذته إلي مكان أصطحابه عند مدخل المدق!!، قد أوشكت أن أكون مثلهم ولكن لربك حكم ومقادير.
Comments
Post a Comment