1993

 التواصل هنا في صحراء وادي الضحل كأنك رجعت بالزمن ثلاثين عامًا.. يتم ببطئ مع فئة قليلة، بلا تشتيت كأنك عن العالم الخارجي معزول وهو كذلك بالفعل فلا تواصل مع الخارج إلا ما تأتينا به سيارة الخدمات، لا توجد تغطية وبالطبع لا يوجد إنترنت.

ربما تكون هذه أطول مدة قضيتها بدون إنترنت في حياتي، لم استخدم هاتفي أكثر من ساعة يوميا!! أنا الذي كنت من الممكن أن أمرر شاشته لست ساعات، بمرور الأيام علي هذا المنوال مصاحبًا لنومٍ واستيقاظٍ مبكر، تعافي جسدي تدريجيًا من إرهاق النظر للشاشات والسهر، بعد وصولي بيومين لم أستطع التواصل فيهم مع أهلي لأطمئنهم عليّ، أشاروا عليّ أن أصعد ذاك الجبل العالي مثبتا هاتفي علي أي صخرة في قمته و عند إذا لا يسعك إلا الأنتظار والدعاء بالفرج.

وبعد ربع ساعة من الدعاء وجهت أول مكالمة لأهلي، مطمئنًا إياهم عن جمال السكن و طيب الأكل وراحة المكان، وكيف لا أكذب وهم خائفين علي ابنهم ولا تزيد الشكوى شيئًا سوي القلق والخوف، مرت الأيام وقد رق المهندسين الأكبر سنا لحالنا وثبتوا جهازًا يستقبل التغطية به خط هاتف خلوي، موصلًا بهاتف أرضي، فتُرسل وتُستقبل المكالمات منه، وهكذا حُلت بعض مشاكلنا، ولكنها زادت مشكلة تقطع سلك الهاتف كل حين وحين.

وعلى كثرة مشاكل الجبل فلم أري قط النجوم مثلما رأيتها هنا واضحة براقة حتي أنك لتري ذراع المجرة واضحا، ولا في كبر حجم القمر ولا في جمال الشروق والغروب، ومن بهاء هذه المناظر وصفاءها يصفو الذهن كما هذه السماء الصافية، فلا تكن بعد ساعات العمل مشاكل، إلا إرهاق العمل نزيله بالنوم.

يتكون الموقع القديم من عدة مباني كلها بطُرز التسعينات، مكتب المهندسين واستراحتهم الممتدة من داخل المكتب وهنا أقضي معظم الوقت بينه أوقات النزول للموقع والإشراف والتوجيه، ومطبخ وقاعة طعام يلتقي فيها كل من يتنفس في الموقع حتي القطط نتقاسم فيها الخبز والضحك، وإلي جانب ذلك غرف منتشرة هي استراحات الفنيين والسائقين والعمال، وبجانبها مخازن وغرفة المولد و مسجد صغير نقضي به فرائضنا جماعة سواسية لا تفرقنا فيه ألقاب ولا تعليم.

والحديث الرائج هنا دائما ما يكون عن أخبار الحفارات واللوادر والمعدات وعن موقف فلان الطريف و ربما عن ذم لطاهيي الموقع القديم ومديحهم لطاهي الموقع الجديد، وفي العادة لا ضحك بحق إلا عندما علي قولهم "يطلعوا الطباخ المسرح" أي يجعلوهم حديثم المسلي ومرمي نكاتهم وهزلهم، فيذمونه علي تكراره للأطباق، وقد قال أحدهم:"يراجل دا لو كل سنة أتعلم صنف زمانه متعلم ست أصناف زيادة" فضحكوا جميعا، أو علي أن أكله يألم المعدة وهكذا أخذوا في الهزل طيل فترة طعامهم، فتري منهم الرجل يذم الطعام وطاهيه وقد فرُغ منه وجلاه بالخبز لدرجة أنه ليري إنعكاسه في الطبق!!.

و في الموقع القديم طاهيان ما يلبث أن ينزل أحدهم عن المسرح حتي يصعد الأخر وهكذا هم حديث الساعة وملهي الناس، هذه لمحات من أسلوب حياة الناس اليومية هنا، هم أشد قربا لبعضهم البعض كأنما نظام اجتماعي قديم بقي علي حاله من زمن كانت وسائل الاتصال فيه مختلفة عن ما نعيشه حاليا، وكأنما هي السبب في تمزيق النسيج الاجتماعي المتلاحم اليوم.






Comments

Popular Posts